تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

بالذكر ، لأنه أوّل عدد يتأتى ذلك فيه.

قال القرطبي : وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال وذهب إليه ابن عمر ومالك والجمهور وسواء أكان التناجي في واجب أو مندوب أو مباح فإنّ الحزن ثابت به ، وقد ذهب بعض الناس إلى أنّ ذلك كان في أوّل الإسلام لأنّ ذلك كان حال المنافقين فيتناجى المنافقون دون المؤمنين فلما فشا الإسلام سقط ذلك ، وقال بعضهم : ذلك خاص بالسفر وفي المواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه فأمّا الحضر وبين العمارة فلا ؛ لأنه يجد من يغيثه بخلاف السفر فإنه مظنة الاغتيال وعدم الغوث

ولما نهى المؤمنين عما يكون سببا للتباغض والتنافر أمرهم الآن بما يصير سببا لزيادة المحبة والمودّة بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : الذين اتصفوا بهذا الوصف (إِذا قِيلَ لَكُمْ) أي : من أيّ قائل كان فإنّ الخير يرغب فيه لذاته (تَفَسَّحُوا) أي : توسعوا أي : كلفوا أنفسكم في اتساع المواضع (فِي الْمَجالِسِ) أي : الجلوس أو مكانه لأجل من يأتي فلا يجد مجلسا يجلس فيه ، قال قتادة ومجاهد : «كانوا يتنافسون في مجلس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمرهم أن يفسح بعضهم لبعض» (١) ، وقال ابن عباس : المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب ، قال الحسن وزيد بن أبي حبيب «كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه على الصف الأوّل فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال والشهادة فنزلت» (٢). فيكون كقوله تعالى : (مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) [آل عمران : ١٢١] وقال مقاتل «كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصفة وكان في المكان ضيق وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين ، والأنصار فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجلس ، فقاموا قبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يحملهم على القيام وشق ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لمن حوله من غير أهل بدر : قم يا فلان بعدد القائمين من أهل بدر فشق ذلك على من قام ، وعرف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكراهة في وجوههم فقال المنافقون : والله ما عدل على هؤلاء أنّ قوما أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه فأقامهم وأجلس من أبطأ» (٣) فنزلت الآية يوم الجمعة

وروي عن ابن عباس قال : «نزلت الآية في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه دخل المسجد وقد أخذ القوم مجالسهم وكان يريد القرب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للوقر أي : الصمم الذي كان في أذنيه فوسعوا له حتى قرب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ضايقه بعضهم وجرى بينه وبينهم كلام فنزلت» وقد تقدّمت قصته في سورة الحجرات. وقرأ عاصم : بفتح الجيم وألف بعدها جمعا لأنّ لكل جالس مجلسا أي : فليفسح كل واحد في مجلسه والباقون بسكون الجيم ولا ألف إفرادا ، قال البغوي : لأنّ المراد منه مجلس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال القرطبي : الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير وللأجر سواء أكان مجلس حرب أو ذكر أو مجلس يوم الجمعة ، وإنّ كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ بذلك

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٢) انظر القرطبي في تفسيره ١٧ / ٢٩٦.

(٣) انظر القرطبي في تفسيره ١٧ / ٢٩٦.

٢٤١

فيخرجه الضيق من موضعه» (١) فيكون المراد بالمجلس الجنس ويؤيده قراءة الجمع (فَافْسَحُوا) أي : وسعوا فيه عن سعة صدر (يَفْسَحِ اللهُ) أي : الذي له الأمر كله (لَكُمْ) في كل ما تكرهون ضيقه من الدارين.

وقال الرازي : هذا يطلق فيما يطلب الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة قال : ولا ينبغي للعاقل أن يقيد الآية بالتفسح في المجلس بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه.

وإذا قيل : أي من أيّ قائل كان كما مضى إذا كان يريد الإصلاح والخير (انْشُزُوا) أي : ارتفعوا وانهضوا إلى الموضع الذي تؤمرون به أو يقتضيه الحال للتوسعة أو غيرها من الأوامر كالصلاة والجهاد (فَانْشُزُوا) أي : فارتفعوا وانهضوا (يَرْفَعِ اللهُ) أي : الذي له جميع صفات الكمال (الَّذِينَ آمَنُوا) وإن كانوا غير علماء (مِنْكُمْ) أي : أيها المأمورون بالتفسح السامعون للأوامر المبادرون إليها بطاعتهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيامهم في مجلسهم وتوسعهم لإخوانهم (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) يجوز أن يكون معطوفا على الذين آمنوا فهو من عطف الخاص على العام فإنّ الذين أوتوا العلم بعض المؤمنين ، ويجوز أن يكون والذين أوتوا العلم من عطف الصفات أي : تكون الصفتان لذات واحدة كأنه قيل : يرفع الله المؤمنين العلماء ودرجات مفعول ثان ، وقال ابن عباس : تمّ الكلام عند قوله تعالى : (مِنْكُمْ) وينتصب الذين أوتوا بفعل مضمر أي : ويخص الذين أوتوا العلم درجات أو ويرفع درجات.

قال المفسرون : في هذه الآية أنّ الله تعالى رفع المؤمن على من ليس بمؤمن والعالم على من ليس بعالم ، قال ابن مسعود مدح الله تعالى العلماء في هذه الآية ، والمعنى : أنّ الله تعالى يرفع الله الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات في دينهم إذا فعلوا بما أمروا به وقال تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩] وقال تعالى : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤] وقال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] والآيات في ذلك كثيرة معلومة

وأمّا الأحاديث فكثيرة مشهورة منها «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» (٢) وروي أنّ عمر رضى الله عنه «كان يقدّم عبد الله بن عباس على الصحابة رضي الله تعالى عنهم فكلموه في ذلك فدعاهم ودعاه فسألهم عن تفسير (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) فسكتوا فقال ابن عباس : هو أجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلمه الله إياه فقال عمر ما أعلم منها إلا ما تعلم» (٣).

__________________

(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٧ / ٢٩٧ ، والعجلوني في كشف الخفاء ٢ / ٣٤٨ ، وعلي القاري في الأسرار المرفوعة ٣٤٥.

(٢) روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة ، أخرجه البخاري في العلم باب ١٠ ، والخمس باب ٧ ، والاعتصام باب ١٠ ، ومسلم في الإمارة حديث ١٧٥ ، والزكاة حديث ٩٨ ، ١٠٠ ، والترمذي في العلم باب ٤ ، وابن ماجه في المقدمة باب ١٧ ، والدارمي في المقدمة باب ٢٤ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٠٦ ، ٢ / ٢٣٤ ، ٤ / ٩٢ ، ٩٣ ، ٩٥ ، ٩٦ ، ٩٧ ، ٩٨ ، ٩٩ ، ١٠١.

(٣) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

٢٤٢

ومنها أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها» (١) والمراد بالحسد : الغبطة : وهي أن تتمنى مثله ومنها أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قال لعليّ كرّم الله وجهه : لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم» (٢) ومنها أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من جاءه أجله وهو يطلب العلم لحيي به الإسلام لم يفضله النبيون إلا بدرجة واحدة» (٣) ومنها أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة» (٤).

ومنها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب. وفي رواية كفضلي على أدناكم» (٥).

ومنها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله أوحى إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أني عليم أحب كل عليم» (٦).

ومنها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» (٧) فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومنها : «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ بمجلسين في مسجده أحد المجلسين يدعون الله تعالى ويرغبون إليه ، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كلا المجلسين على خير وأحدهما أفضل من صاحبه ، أما هؤلاء فيدعون الله عزوجل ويرغبون إليه ، وأما هؤلاء فيتعملون الفقه ويعلمونه الجاهل فهؤلاء أفضل ، وإنما بعثت معلما ثم جلس فيهم» (٨) والأحاديث في ذلك كثيرة جدّا.

وأمّا أقوال السلف فلا تحصر ، فمنها ما قاله ابن عباس : أن سليمان عليه‌السلام خير بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه ، وما قاله بعض الحكماء : ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم وأي شيء فات من أدرك العلم.

وما قاله الأحنف : كاد العلماء يكونون أربابا ، وكل عز لم يؤكد بعلم فإلى ذل ما يصير.

وما قاله الزبيري : العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكورة الرجال.

وما قاله أبو مسلم الخولاني : مثل العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء إذا برزت للناس اهتدوا بها وإذا خفيت عنهم تحيروا.

__________________

(١) أخرجه البخاري في العلم حديث ٧٣ ، ومسلم في المسافرين حديث ٨١٦ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٣٠٨.

(٢) أخرجه البخاري في الجهاد حديث ٢٩٤٢ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٤٠٦ ، وأبو داود في العلم حديث ٣٦٦١.

(٣) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال ٢٨٨٣١ ، ٢٨٨٣٢ ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ٣ / ٧٨.

(٤) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١ / ٨٤ ، والقرطبي في تفسيره ١٧ / ٣٠٠ ، والعجلوني في كشف الخفاء ٢ / ١١٢ ، ٢٠٦.

(٥) أخرجه أبو داود في العلم حديث ٢٦٤١ ، والترمذي في العلم حديث ٢٦٨٢ ، ٢٦٨٥ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ٢٢٣.

(٦) أخرجه بنحوه السيوطي في الدر المنثور ٢ / ٧٥ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٥١٥٩.

(٧) أخرجه ابن ماجه في الزهد حديث ٤٣١٣.

(٨) أخرجه ابن ماجه في المقدمة حديث ٢٢٩ ، والدارمي في المقدمة حديث ٣٤٩.

٢٤٣

وما قاله معاذ : تعلم العلم فإنّ تعلمه لك حسنة ، وطلبه عبادة ، ومذاكرته تسبيح ، والبحث عنه جهاد وتعليمه من لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة.

وما قاله علي : العلم خير من المال العلم يحرسك وأنت تحرس المال والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق.

وما قاله ابن عمر : مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة.

وما قاله الشافعي من أن : طلب العلم أفضل من صلاة النافلة وقال : ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم ، وقال : من أراد الدنيا فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم فإنه يحتاج إليه في كل منهما.

وقد ذكرت في أوّل شرح المنهاج من الأحاديث ومن أقوال السلف ما يسرّ الناظر الراغب في الخير وفيما ذكرته هنا كفاية لأولي الأبصار.

(وَاللهُ) أي : والحال أنّ المحيط بكل شيء علما وقدرة (بِما تَعْمَلُونَ) أي : حال الأمر وغيره (خَبِيرٌ) أي : عالم بظاهره وباطنه فإن كان العلم مزينا بالعمل بامتثال الأوامر واجتناب النواهي وتصفية الباطن كانت الرفعة على حسبه ، وإن كان على غير ذلك فكذلك.

واختلف في سبب نزول قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : ادعوا أنهم أوجدوا هذه الحقيقة أغنياء كانوا أو فقراء (إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ) أي : أردتم مناجاة الذي لا أكمل منه في الرسالة الآية ، فقال ابن عباس : «إنّ المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى شقوا عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية فكف كثير من الناس» (١). وقال الحسن : «إنّ قوما من المسلمين كانوا يستخلون بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يناجونه ، فظنّ بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى فشق عليهم ذلك فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه» (٢).

وقال زيد بن أسلم «إنّ المنافقين واليهود كانوا يناجون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقولون : إنه أذن يسمع كل ما قيل له ، وكان لا يمنع أحدا من مناجاته فكان ذلك يشق على المسلمين لأنّ الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم يناجون أنّ جموعا اجتمعت للقتال فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ) أي : أردتم مناجاته (فَقَدِّمُوا) أي : بسبب هذه الإرادة وقوله تعالى : (بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ) استعارة ممن له يدان والمعنى : قبل نجواكم التي هي سرّكم الذي تريدون أن ترفعوه (صَدَقَةً) لقول عمر من أفضل ما أوتيت العرب الشعر يقدّمه الرجل أمام حاجته فيستمطر به الكريم ويستنزل به اللئيم يريد قبل حاجته ، والصدقة تكون لكم برهانا على إخلاصكم كما ورد أنّ الصدقة برهان فهي مصدّقة لكم في دعوى الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبكل ما جاء به عن الله تعالى.

تنبيه : ظاهر الآية يدل على أنّ تقديم الصدقة كان واجبا لأنّ الأمر للوجوب ويؤكد ذلك قوله تعالى بعده : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقيل : كان مندوبا لقوله تعالى : (ذلِكَ) أي : التصدّق (خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) أي : لأنفسكم من الريبة وحب المال وهذا إنما يستعمل في التطوّع لا في الواجب ولأنه لو كان واجبا لما أزيل وجوبه والكلام متصل به وهو قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) الآية.

__________________

(١) انظر القرطبي في تفسيره ١٧ / ٣٠١.

(٢) انظر الحاشية السابقة.

٢٤٤

وأجيب عن الأوّل : بأنّ المندوب كما يوصف بأنه خير وأطهر فكذلك أيضا يوصف بهما الواجب.

عن الثاني : بأنه لا يلزم من اتصال الآيتين في التلاوة كونهما متصلتين في القول كما قيل في الآية الدالة على وجوب الاعتداد أربعة أشهر وعشرا أنها ناسخة للاعتداد بحول وإن كان الناسخ متقدّما في التلاوة.

وعن علي أنه قال : «لما نزلت دعاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ما تقول في دينار؟ قلت : لا يطيقونه ، قال : كم؟ قلت : حبة أو شعيرة قال إنك لزهيد فلما رأوا ذلك اشتدّ عليهم فارتدعوا ، أما الفقير فلعسرته وأما الغنيّ فلشحته» (١) واختلف في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ في هذه الآية ، فقال الكلبي : ما بقي ذلك التكليف إلا ساعة من نهار ثم نسخ وقال مقاتل وابن حبان : بقي ذلك التكليف عشرة أيام ثم نسخ لما روي عن عليّ أنه قال إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي كان لي دينار فصرفته فكنت إذا ناجيته تصدّقت بدرهم. وفي رواية عنه فاشتريت به عشرة دراهم وكلما ناجيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدمت بين يدي نجواي درهما ثم نسخت فلم يعمل بها أحد.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم نهوا عن المناجاة حتى يتصدّقوا فلم يناج أحد إلا علي تصدّق بدينار ، وعدم عمل غيره لا يقدح فيه لاحتمال أن يكون لم يجد عند المناجاة شيئا أو أن لا يكون احتاج إلى المناجاة ثم نزلت الرخصة.

وعن ابن عمر رضي الله عنه كان لعليّ ثلاث لو كان لي واحدة منهنّ كانت أحب إليّ من حمر النعم تزويجه فاطمة وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى.

واختلف في الناسخ لذلك فقيل : هي منسوخة بالزكاة وأكثر المفسرين أنها منسوخة بالآية التي بعدها وهي (أَأَشْفَقْتُمْ) كما سيأتي وكان عليّ يقول : وخفف عن هذه الأمة (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) أي : ما تقدّمونه (فَإِنَّ اللهَ) أي الذي له جميع صفات الكمال (غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : له صفتا الستر للمساوي والإكرام بإظهار المحاسن على الدوام فهو يعفو ويرحم تارة يقدّم العقاب للعاصي وتارة بالتوسعة للضيق بأن ينسخ ما يشق إلى ما يخف.

وقوله تعالى : (أَأَشْفَقْتُمْ) أي : خفتم العيلة لما يعدكم به الشيطان من الفقر خوفا كاد أن يفطر قلوبكم (أَنْ تُقَدِّمُوا) أي : بإعطاء الفقراء وهم إخوانكم (بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ) أي : النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (صَدَقاتٍ) وجمع ؛ لأنه أكثر توبيخا من حيث إنه يدل على أنّ النجوى تتكرّر استفهام معناه التقرير وهو الناسخ عند الأكثر كما مرّ.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام : بتسهيل الثانية بخلاف عن هشام ، وأدخل بينهما الفاء قالون وأبو عمرو وهشام ، والباقون بتحقيقهما ولا إدخال والأولى محققة بلا خلاف (فَإِذْ) أي : فحين (لَمْ تَفْعَلُوا) أي : ما أمرتكم به من الصدقة للنجوى بسبب هذا الإشفاق (وَتابَ اللهُ) أي : الملك الأعلى (عَلَيْكُمْ) أي : رجع بكم عنها بأن نسخها عنكم تخفيفا عليكم (فَأَقِيمُوا) أي :

__________________

(١) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٣٠٠ ، والطبراني في المعجم الكبير ١ / ١٠٩ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ١٢٢ ، والطبري في تفسيره ٢٨ / ١١.

٢٤٥

بسبب العفو عنكم شكرا أي : على هذا الكرم والحلم (الصَّلاةَ) التي هي طهرة لأرواحكم وصلة لكم بربكم (وَآتُوا الزَّكاةَ) التي هي براءة لأبدانكم وتطهير ونماء لأموالكم وصلة لكم بإخوانكم ، ولا تفرّطوا في شيء من ذلك فتهملوه فالصلاة نور يهدي إلى المقاصد الدنيوية والأخروية ويعين على نوائب الدارين ، والصدقة برهان على صحة القصد في الصلاة.

ثم عمم بعد أن خصص أشرف العبادات البدنية وأعلى المناسك المالية بقوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ) أي : الذي له الكمال كله (وَرَسُولَهُ) أي : الذي عظمته من عظمته في سائر ما يأمرانكم به ، فإنه تعالى ما أمركم لأجل إكرام رسولكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بالحنيفية السمحة (وَاللهُ) أي : الذي أحاط بكل شيء علما وقدرة (خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي : يعلم بواطنكم كما يعلم ظواهركم لا تخفى عليه خافية.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢))

(أَلَمْ تَرَ) أي : تنظر يا أشرف الخلق (إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا) أي : تكلفوا بغاية جهدهم وهم المنافقون أي جعلوا أولياءهم الذين يتولون لهم أمورهم (قَوْماً) وهم اليهود ابتغوا عندهم العزة اغترارا بما يظهر لهم منهم من القوة (غَضِبَ اللهُ) أي : الملك الأعلى الذي لا ندّله (عَلَيْهِمْ) أي : المتولى والمتولي لهم (ما هُمْ) أي : المنافقون (مِنْكُمْ) أي : المؤمنين (وَلا مِنْهُمْ) أي : اليهود بل هم مذبذبون وزاد في الشناعة عليهم بأقبح الأشياء بقوله تعالى : (وَيَحْلِفُونَ) أي : المنافقون يجدّدون الحلف على الاستمرار ودل بأداة الاستعلاء على أنهم في غاية الجراءة على استمرارهم على الأيمان الكاذبة بأنّ التقدير مجترئين (عَلَى الْكَذِبِ) في دعوى الإسلام وغير ذلك مما يقعون فيه من عظائم الآثام فإذا عوتبوا عليه بادروا إلى الإيمان (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون متعمدون.

روي «أنّ عبد الله بن نبتل كان يجالس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود فبينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجرة من حجره إذ قال لأصحابه : يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان ، فدخل ابن نبتل وكان أزرق العينين أسمر قصيرا خفيف اللحية ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فعلت فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فنزلت» (١).

__________________

(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ٦ / ٤٣ ، ١٧ / ٣٠٤ ، والبغوي في تفسيره ٥ / ٤٩.

٢٤٦

(أَعَدَّ اللهُ) أي : الذي له العظمة الباهرة فلا كفء له (لَهُمْ عَذاباً) أي : أمرا قاطعا لكل عذوبة (شَدِيداً) أي : لا طاقة لهم به ثم علل عذابهم بما دلّ على أنه واقع في أتم مواقعه بقوله تعالى مؤكدا تقبيحا على من كان يستحسن فعالهم (إِنَّهُمْ ساءَ) أي : بلغ الغاية بما يسوء ودل على أنّ ذلك لهم كالجبلة بقوله تعالى : (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : يجدّدون عمله مستمرّين عليه لا ينفكون عنه ، قال الزمخشري : أو هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة.

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) أي : الكاذبة التي لا تهون على من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان (جُنَّةً) وقاية وسترة من كل ما يفضحهم من النفاق كائنا ما كان (فَصَدُّوا) أي : كان قبول ذلك منهم وتأخير عقابهم سببا لإيقاعهم الصدّ (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : شرع الملك الأعلى الذي هو طريق إلى رضوانه الذي هو سبب الفوز العظيم فإنهم كانوا يثبطون من لقوا عن الدخول في الإسلام ويوهنون أمره ويحقرونه ، ومن رآهم قد خلصوا من المكاره بأيمانهم الخائنة ودرّت عليهم الأرزاق استدراجا ، وحصلت لهم الرفعة عند الناس بما يرضونه من أقوالهم المؤكدة بالأيمان ، غرّه ذلك فاتبع سنتهم في أقوالهم وأفعالهم ونسج على منوالهم غرورا بظاهر أمرهم معرضا عما توعدهم الله تعالى عليه من جزاء خداعهم وأمرهم وأجرى الأمر على أسلوب التهكم باللام التي تكون في المحبوب فقال تعالى : (فَلَهُمْ) أي : فتسبب عن صدّهم إنه كان لهم (عَذابٌ مُهِينٌ) جزاء بما طلبوا بذلك الصدّ إعزاز أنفسهم وإهانة أهل الإسلام

(لَنْ تُغْنِيَ) أي : بوجه من الوجوه (عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ) أي : في الدنيا ولا في الآخرة بالافتداء ولا بغيره (وَلا أَوْلادُهُمْ) أي : بالنصرة والمدافعة (مِنَ اللهِ) أي : إغناء مبتدأ من الملك الأعلى (شَيْئاً) ولو قل جدّا فمهما أراد بهم سبحانه كان ونفذ ومضى لا يدفعه شيء تكذيبا لمن قال منهم : لئن كان يوم القيامة لنكوننّ أسعد فيه منكم كما نحن الآن ولننجونّ بأنفسنا وأموالنا وأولادنا (أُولئِكَ) أي : البعداء من كل خير (أَصْحابُ النَّارِ هُمْ) أي : خاصة (فِيها) أي : خاصة (خالِدُونَ) أي : دائمون لازمون إلى غير نهاية

وقوله تعالى : (يَوْمَ) منصوب باذكر أي : واذكر يوم (يَبْعَثُهُمُ اللهُ) أي : الذي له جميع صفات الكمال (جَمِيعاً) فلا يترك أحدا منهم ولا من غيرهم إلا أعاده إلى ما كان قبل موته (فَيَحْلِفُونَ) أي : فيتسبب عن ظهور القدرة التامّة لهم ومعاينة ما كانوا يكذبون به أنهم يحلفون (اللهُ) أي : لله في الآخرة أنهم مسلمون فيقولون : والله ربنا ما كنا مشركين ونحو ذلك (كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) في الدنيا أنهم مثلكم ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يحلفون لله تعالى يوم القيامة كذبا كما حلفوا لأوليائه في الدنيا وهو قولهم والله ربنا ما كنا مشركين. (وَيَحْسَبُونَ) أي : في القيامة بأيمانهم الكاذبة (أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) أي : يحصل لهم به نفع بإنكارهم وحلفهم ، وقيل : يحسبون في الدنيا أنهم على شيء ، لأنهم في الآخرة يعلمون الحق باضطرار والأول أظهر والمعنى : أنهم لشدّة توغلهم في النفاق ظنوا يوم القيامة أنهم يمكنهم ترويج كذبهم بالأيمان الكاذبة على علام الغيوب.

وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨] وعن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ينادي مناد يوم القيامة أين خصماء الله تعالى فتقوم القدرية مسودّة وجوههم مزرقة أعينهم مائل شقهم يسيل لعابهم فيقولون والله ما عبدنا من دونك شمسا ولا

٢٤٧

قمرا ولا صنما ولا اتخذنا من دونك إلها» قال ابن عباس رضي الله عنهما : صدقوا والله أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون ثم تلا : وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ» (١) وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة : بفتح السين ، والباقون بكسرها (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) المحكوم بكذبهم في حسبانهم هم والله القدرية ثلاثا.

(اسْتَحْوَذَ) أي : استولى (عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) مع أنه طريد ومحترق ووصل منهم إلى ما يريده وملكهم ملكا لم يبق لهم معه اختيار فصاروا رعيته وصار هو محيطا بهم من كل جهة غالبا عليهم ظاهرا وباطنا من قولهم حذت الإبل وحذذتها إذا استوليت عليها ، والحوذ أيضا : السوق السريع ومنه الأحوذي الخفيف في الشيء لحذقه ، واستحوذ مما جاء على الأصل وهو ثبوت الواو دون قلبها ألفا (فَأَنْساهُمْ) أي : فتسبب عن استحواذه عليهم أن أنساهم (ذِكْرَ اللهِ) أي : الذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا (أُولئِكَ) أي : البعداء البغضاء (حِزْبُ الشَّيْطانِ) أي : أتباعه وجنوده وطائفته وأصحابه (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ) أي : الطريد المحترق (هُمُ الْخاسِرُونَ) أي : العريقون في هذا الوصف ؛ لأنهم لم يظفروا بغير الطرد والاحتراق.

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ) أي : يفعلون مع الملك الأعظم الذي لا كفؤ له ، فعل من ينازع آخر في الأرض فيغلب على طائفة ليجعل لها حدا لا يتعداه خصمه (وَرَسُولَهُ) أي : الذي عظمته من عظمته (أُولئِكَ) أي : البعداء البغضاء (فِي الْأَذَلِّينَ) أي : في جملة من هو أدل خلق الله تعالى.

واختلف في معنى قوله عزوجل (كَتَبَ اللهُ) أي : الملك الذي لا كفؤ له فقال أكثر المفسرين أي : قضى الله عزوجل (لَأَغْلِبَنَ) وقال قتادة : كتب في اللوح المحفوظ ، وقال الفراء : كتب بمعنى قال وقوله تعالى : (أَنَا) تأكيد (وَرُسُلِي) أي : من بعث منهم بالحرب ومن بعث منهم بالحجة فإذا انضم إلى الغلبة بالحجة الغلبة بالحرب كان أغلب وأقوى.

وقال مقاتل : قال المؤمنون لئن فتح الله لنا مكة والطائف وخيبر وما حولهنّ رجونا أن يظهرنا الله تعالى على فارس والروم ، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول : أتظنون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها والله إنهم لأكثر عددا وأشدّ بطشا من أن تظنوا فيهم فنزل (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي.)

ونظيره قوله تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات : ١٧١ ـ ١٧٣] وقرأ نافع وابن عامر : بفتح الياء والباقون بالسكون (إِنَّ اللهَ) أي : الذي له الأمر كله (قَوِيٌ) أي : على نصر أوليائه (عَزِيزٌ) أي : لا يغلب عليه في مراده.

ثم نهى تعالى عن موالاة أعداء الله تعالى بقوله سبحانه (لا تَجِدُ) أي : بعد هذا البيان (قَوْماً) أي : ناسا لهم قوة على ما يريدون (يُؤْمِنُونَ) أي : يجددون الإيمان ويديمونه (بِاللهِ) أي : الذي له صفات الكمال (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الذي هو موضع الجزاء لكل عامل بكل ما عمل الذي هو محط الحكمة (يُوادُّونَ) أي : يحصل منهم ودّ لا ظاهرا ولا باطنا (مَنْ حَادَّ اللهَ) أي : عادى بالمناصبة في حدود الملك الأعلى (وَرَسُولَهُ) فإن من حادّه فقد حادّ الذي أرسله بل لا تجدهم إلا يحادّونهم لا أنهم يوادّونهم.

وزاد ذلك تأكيدا بقوله تعالى : (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ) أي : الذين أوجب الله تعالى إلا بناء

__________________

(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٧ / ٣٠٥.

٢٤٨

طاعتهم في المعروف ، وذلك كما فعل أبو عبيدة بن الجراح حيث قتل أباه عبد الله بن الجرّاح يوم أحد (أَوْ أَبْناءَهُمْ) أي : الذين جبلوا على محبتهم ورحمتهم ، كما فعل أبو بكر «فإنه دعا ابنه يوم بدر إلى المبارزة وقال : دعني يا رسول الله أكن في الرعلة الأولى فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : متعنا بنفسك يا أبا بكر أما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري» (١)(أَوْ إِخْوانَهُمْ) أي : الذين هم أعضادهم كما فعل مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد وخزف سعد بن أبي وقاص غير مرّة فراغ منه روغان الثعلب فنهاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه وقال : أتريد أن تقتل نفسك.

وقتل محمد بن سلمة الأنصاري أخاه من الرضاع كعب بن الأشرف اليهودي رأس بني النضير (أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) أي : الذين هم أنصارهم وأمدادهم كما قتل عمر خاله العاصي وهشام ابن المغيرة يوم بدر ، وعلي وحمزة وعبيدة بن الحارث قتلوا يوم بدر بني عمهم عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة.

وعن الثوري : أنّ السلف كانوا يرون أنّ الآية نزلت فيمن يصحب السلطان ا. ه. ومدار ذلك على أنّ الإنسان يقطع رجاءه من غير الله تعالى ، وإن لم يكن كذلك لم يكن مخلصا في إيمانه.

تنبيه : قدّم الآباء أوّلا لأنهم تجب طاعتهم على أبنائهم ، ثم ثنى بالأبناء لأنهم أعلق بالقلوب وهم حياتها ، ثم ثلث بالأخوان لأنهم هم الناصرون بمنزلة العضد من الذراع. قال الشاعر (٢) :

أخاك أخاك إن من لا أخا له

كساع إلى الهيجا بغير سلاح

وإن ابن عمّ المرء فاعلم جناحه

وهل ينهض البازي بغير جناح

ثم ربع بالعشيرة لأنّ بها يستغاث وعليها يعتمد ، والمعنى : أنّ الميل إلى هؤلاء أعظم أنواع المحبة ومع هذا فيجب أن يكون هذا الميل مطروحا بسبب الدين.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجرّاح لما قتل أباه ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قتل خاله العاصي بن هشام يوم بدر روي أنها نزلت في أبي بكر ، وذلك أنّ أبا قحافة سب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصكه صكة سقطت منها أسنانه ، ثم أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر له ذلك ، فقال : أو فعلت ، قال : نعم ، قال : لا تعد إليه ، فقال : والذي بعثك بالحق نبيا لو كان السيف مني قريبا لقتلته ، فهؤلاء لم يوادّوا أقاربهم.

قال القرطبي : استدل مالك بهذه الآية على معاداة القدرية وترك مجالستهم ، قال القرطبي : وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظلم. وعن عبد العزيز بن أبي رواد : أنه لقي المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلا الآية. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهمّ لا تجعل لفاجر عندي نعمة ، فإني وجدت فيما أوحيت إليّ (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية (أُولئِكَ) أي : العالو الهمة

__________________

(١) أخرجه الحاكم في المستدرك ٣ / ٤٧٤ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٨ / ١٨٦ ، والقرطبي في تفسيره ١٠ / ١٩ ، ١٧ / ٣٠٧.

(٢) البيتان من الطويل ، وهما لمسكين الدارمي في ديوانه ص ٢٩ ، والأغاني ٢٠ / ١٧١ ، ١٧٣ ، وخزانة الأدب ٣ / ٦٥ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٢٧ ، والبيت الأول لمسكين أو لابن هرمة في فصل المقال ص ٢٦٩ ، ولقيس بن عاصم في حماسة البحتري ص ٢٤٥ ، ولقيس بن عاصم أو لمسكين الدارمي في الحماسة البصرية ٢ / ٦٠.

٢٤٩

(كَتَبَ) أي : أثبت قاله الربيع بن أنس رضي الله عنه ، وقيل : خلق ، وقيل : جعل كقوله تعالى : (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران : ٥٣] أي : اجعلنا ، وقوله تعالى : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) [الأعراف : ١٥٦] وقيل : كنب (فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) [المجادلة : ٢٢] بما وفقهم فيه وشرح له صدرهم ، أي : على قلوبهم كقوله تعالى : (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١] وخص القلوب بالذكر لأنها موضع الإيمان. قال البيضاوي : وهو دليل على خروج العمل من مفهوم الإيمان ، فإنّ جزاء الثابت في القلب يكون ثابتا فيه ، وأعمال الجوارح لا تثبت فيه. (وَأَيَّدَهُمْ) أي : وقوّاهم وشدّدهم وشرّفهم (بِرُوحٍ) أي : نور شريف جدّا يفهمون به ما أودع في كتابه وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نور العلم والعمل (مِنْهُ) أي : من الله تعالى أحياهم به فلا انفكاك لذلك عنهم في وقت من الأوقات ، فأثمر لهم استقامة المناهج ظاهرا وباطنا ، فعملوا الأعمال الصالحة فكانوا للدنيا كالسرج ، فلا تجد شيئا أدخل في الإخلاص من موالاة أولياء الله تعالى ، ومعاداة أعدائه لا بل هو عين الإخلاص ، ومن جنح إلى منحرف عن دينه ، أوداهن مبتدعا في عقيدته نزع الله تعالى نور التوحيد من قلبه.

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الضمير للإيمان ، أي : بروح من الإيمان على أنه في نفسه روح لحياة القلوب به وقال ابن عباس رضى الله عنهما : نصرهم على عدوّهم ، وسمى تلك النصرة روحا ، لأنّ بها يحيا أمرهم. وقال الربيع بن أنس رضى الله عنه : بالقرآن وحججه ، وقال ابن جريج : بنور وبرهان وهدى ، وقيل : برحمة ، وقيل : أيدهم بجبريل عليه‌السلام (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ) أي : بساتين تستر داخلها من كثرة أشجارها.

وأخبر عن ريها بقوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي قصورها (الْأَنْهارُ) فهي بذلك كثيرة الرياض والأشجار وقال تعالى : (خالِدِينَ فِيها) لأنّ ذلك لا يلذ إلا بالدوام ، وقال تعالى : (رَضِيَ اللهُ) أي : الملك الأعظم (عَنْهُمْ) لأنّ ذلك لا يتم إلا برضا مالكها الذي له الملك كله (وَرَضُوا عَنْهُ) أي : لأنه أعطاهم فوق ما يؤملون (أُولئِكَ) أي : الذين هم في الدرجات العلى من العظمة لكونهم قصروا ودّهم على الله تعالى ، علما منهم بأنه ليس الضرّ والنفع إلا بيده (حِزْبُ اللهِ) أي : جند الملك الذي أحاط بجميع صفات الكمال (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ) أي : جند الملك الأعلى ، وهم هؤلاء الموصوفون ومن والاهم (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي : الذين حازوا الظفر بكل ما يؤملون في الدارين ، وقد علم من الرضا من الجانبين والحزبية والإفلاح عدم الانفكاك عن السعادة فأغنى ذلك عن تقييد الخلود بالتأييد.

فائدة : هذه السورة نصف القرآن عددا ، وليس فيها آية إلا وفيها ذكر الجلالة الكريمة مرة أو مرتين أو ثلاثا. وما رواه البيضاوي تبعا للزمخشري عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنّ من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله تعالى يوم القيامة» (١) حديث موضوع. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٤٩٧.

٢٥٠

سورة الحشر

مدنية ، في قول الجميع ، وهي أربع وعشرون آية وأربعمائة وخمس وأربعون كلمة ، وألف وتسعمائة وثلاثة عشر حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الملك الأعظم الذي لا خلف لميعاده (الرَّحْمنِ) الذي عمت نعمة إيجاده (الرَّحِيمِ) الذي خص أهل ودّه بالتوفيق فهم أهل السعادة.

ولما ختمت المجادلة بأنه يعز أهل طاعته ويذل أهل معصيته تنزه عن النقائص تأييدا للوعد بنصرهم فقال تعالى :

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥) وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨))

(سَبَّحَ) أي : أوقع التنزيه الأعظم عن كل شائبة نقص (لِلَّهِ) الذي أحاط بجميع صفات الكمال (ما فِي السَّماواتِ) أي : كلها (وَما فِي الْأَرْضِ) أي : كذلك ، وقيل : إن اللام مزيدة ، أي : نزهه وأتى بما تغليبا للأكثر ، وجمع السماء لأنها أجناس.

قيل : بعضها من فضة وبعضها من غير ذلك ، وأفرد الأرض لأنها جنس واحد (وَهُوَ) أي : والحال أنه وحده (الْعَزِيزُ) الذي يغلب كل شيء ، ولا يمتنع عليه شيء (الْحَكِيمُ) الذي نفذ علمه في الظواهر والبواطن ، وأحاط بكل شيء فأتقن ما أراد ، فكل ما خلقه جعله على وحدانيته دليلا ، وإلى بيان ما له من العزة والحكمة سبيلا.

٢٥١

وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء ، والباقون بضمها ، قال المفسرون : نزلت هذه السورة في بني النضير ، وذلك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يكونوا عليه ولا له ، فلما غزا بدرا وظهر على المشركين قالوا : هو النبيّ الذي نعته في التوراة لا تردّ له راية ، فلما غزا أحدا وهزم المسلمون ارتابوا وأظهروا العداوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبا من اليهود إلى مكة ، فأتوا قريشا فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودخل أبو سفيان في أربعين وكعب في أربعين من اليهود المسجد ، وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين أستار الكعبة ، ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة فنزل جبريل عليه‌السلام ، وأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما عاقد عليه كعب وأبو سفيان ، فأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة ، فلما قتل كعب بن الأشرف أصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر الناس بالمسير إلى بني النضير ، وكانوا بقرية يقال لها : زهرة فلما سار إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجدهم ينوحون على كعب ، وقالوا : يا محمد واعية على أثر واعية ، وباكية على أثر باكية ، قال : نعم ، قالوا : ذرنا نبكي شجونا ثم ائتمر أمرك ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اخرجوا من المدينة ، فقالوا : الموت أقرب إلينا من ذلك ، ثم تنادوا بالحرب وآذنوا بالقتال ، ودس المنافقون عبد الله بن أبيّ وأصحابه إليهم أن لا تخرجوا من الحصن ، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم ، ولئن خرجتم لنخرجنّ معكم ، فدربوا على الأزقة وحصنوها ، ثم إنهم أجمعوا الغدر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسلوا إليه أن اخرج في ثلاثين رجلا من أصحابك ، ويخرج منا ثلاثون حتى نلتقي بمكان نصف بيننا وبينك فيسمعون منك ، فإن صدّقوك وآمنوا بك آمنا كلنا. فخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثلاثين من أصحابه ، وخرج إليه ثلاثون حبرا من اليهود حتى إذا كانوا في براز من الأرض ، قال بعض اليهود لبعض : كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون من رجال أصحابه كلهم يحب الموت قبله ، ولكن أرسلوا إليه كيف نفهم ونحن ستون رجلا اخرج في ثلاثة من أصحابك ونخرج إليك في ثلاثة من علمائنا فيسمعون منك ، فإن آمنوا بك آمنا كلنا بك وصدقناك.

فخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثلاثة من أصحابه ، واشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها ، وهو رجل مسلم من الأنصار فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأقبل أخوها سريعا حتى أدرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسارّه بخبرهم.

فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة ، فقذف الله في قلوبهم الرعب ، وأيسوا من نصر المنافقين فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلح ، فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة على ما يأمرهم به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقبلوا ذلك فصالحهم على الجلاء وعلى أنّ لهم ما أقلت الإبل من أموالهم إلا الحلقة ، وهي السلاح ، وعلى أن يخلوا لهم ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : على أن يحمل كل أهل بيت على بعير ما شاؤوا من متاعهم ، وللنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما بقي.

وقال الضحاك : على كل ثلاثة نفر بعيرا ووسقا من طعام. ففعلوا ذلك وخرجوا من المدينة إلى الشام إلى أذرعات وأريحاء إلا أهل بيتين من آل بني الحقيق ، وآل حيي بن أخطب فإنهم لحقوا

٢٥٢

بخيبر ، ولحقت طائفة بالحيرة.

فذلك قوله تعالى : (هُوَ) أي : وحده من غير إيجاف خيل ولا ركاب (الَّذِي أَخْرَجَ) أي : على وجه القهر (الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : ستروا ما في كتبهم من الشواهد لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه النبيّ الخاتم ، وما في فطرتهم الأولى من اتباع الحق (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي : الذي أنزله الله تعالى على رسوله موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم بنو النضير. وفي التعبير بكفروا إشعار بأنهم الذي أزالوا بالتبديل والإخفاء ما قدروا عليه مما بقي من التوراة (مِنْ دِيارِهِمْ) أي : مساكنهم بالمدينة عقوبة لهم ، لأنّ الوطن عديل الروح لأنه للبدن كالبدن للروح فكان الخروج منه في غاية العسر. قال ابن اسحق : كان إجلاء بني النضير مرجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحد ، وفتح قريظة عند مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) هو حشرهم إلى الشام.

وآخره أن جلاهم عمر في خلافته إلى خيبر. قال سمرة الهمداني : كان أوّل الحشر من المدينة ، والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا من الشام في أيام عمر وقال القرطبي : الحشر الجمع ، وهو على أربعة أضرب : حشران في الدنيا وحشران في الآخرة ، أما الذي في الدنيا فقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) كانوا من سبط لم يصبهم جلاء ، وكان الله تعالى قد كتب عليهم الجلاء فلولا ذلك لعذبهم في الدنيا ، وكان أوّل حشر في الدنيا إلى الشام ، قال ابن عباس وعكرمة رضي الله عنهم : من شك أنّ المحشر في الشام فليقرأ هذه الآية ، وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم : «اخرجوا قالوا إلى أين ، قال : إلى أرض الحشر» (١) قال قتادة : هذا أول الحشر. قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو أول من حشر من أهل الكتاب وأخرج من داره.

وأما الحشر الثاني : فحشرهم قرب القيامة ، قال قتادة : تأتي نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا وتأكل من تخلف منهم ، وهذا ثابت في الصحيح. وذكروا أنّ تلك النار ترى بالليل ولا ترى بالنهار.

وقال ابن العربي : للحشر أوّل ووسط وآخر ، فالأوّل : جلاء بني النضير ، والأوسط : جلاء خيبر ، والآخر : حشر يوم القيامة. وعن الحسن : هم بنو قريظة وخالفه بقية المفسرين ، وقالوا : بنو قريظة ما حشروا ولكنهم قتلوا حكاه الثعلبي (ما ظَنَنْتُمْ) أيها المؤمنون (أَنْ يَخْرُجُوا) أي : يوقعوا الخروج من شيء أورثتموه منهم لما كان لكم من الضعف ولهم من القوة لكثرتهم وشدّة بأسهم وقرب بني قريظة منهم وأهل خيبر أيضا غير بعيدين عنهم ، وكلهم أهل ملتهم والمنافقون من أنصارهم فخابت ظنونهم في جميع ذلك (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ) وقوله تعالى : (مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ) فيه وجهان :

أحدهما : أن تكون حصونهم مبتدأ ، ومانعتهم خبرا مقدّما ، والجملة خبر أنهم.

الثاني : أن تكون مانعتهم خبر أنهم ، وحصونهم فاعل به نحو إنّ زيدا قائم أبوه ، وإنّ عمرا قائمة جاريته. وجعله أبو حيان أولى لأنّ في نحو قائم زيد على أن يكون خبرا مقدّما ومبتدأ مؤخرا خلافا ، والكوفيون يمنعونه فمحل الوفاق أولى.

__________________

(١) أخرجه ابن كثير في تفسيره ٨ / ٨٤ ، والذهبي في ميزان الاعتدال ٣٢٧١ ، والقرطبي في تفسيره ١٨ / ٢.

٢٥٣

وقال الزمخشري : فإن قلت : أي فرق بين قولك وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم ، وبين النظم الذي جاء عليه. قلت : في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم ، وفي تصيير ضميرهم اسما لأن وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة ، لا يبالي معها بأحد يتعرّض لهم أو يطمع في مغازتهم ، وليس ذلك في قولك : وظنوا أنّ حصونهم تمنعهم ا. ه. وهذا الذي ذكره إنما يتأتى على الإعراب الأوّل ، وقد تقدّم أنه مرجوح ودل على ضعف عقولهم بأن عبر عن جنده باسمه الأعظم بقوله تعالى : (مِنَ اللهِ) أي : الملك الأعظم الذي لا عز إلا له (فَأَتاهُمُ اللهُ) أي : جاءهم الملك الأعظم الذي لا يحتملون مجيئه (مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) بما صوّر لهم من حقارة أنفسهم على حبسها ، وهي خذلان المنافقين رعبا كرعبهم. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بفتحها (وَقَذَفَ) أي : أنزل إنزالا كأنه قذف بحجارة فثبت (فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي : الخوف الذي سكنها بعد أن كان الشيطان زين لهم غير ذلك ، وملأ قلوبهم من الأطماع الفارغة. وقرأ في قلوبهم الرعب ، وعليهم الجلاء ، ولإخوانهم الذين حمزة والكسائي في الوصل بضم الهاء والميم ، وأبو عمر وبكسرهما ، والباقون بكسر الهاء وضم الميم ، وحرّك العين بالضم ابن عامر والكسائي ، والباقون بالسكون.

ثم بين تعالى حالهم عند ذلك وفسر قذف الرعب بقوله تعالى : (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ) أي : لينقلوا ما استحسنوه منها من خشب وغيره. وقرأ أبو عمرو بفتح الخاء وتشديد الراء ، والباقون بسكون الخاء وتخفيف الراء وهما بمعنى ، لأنّ خرب عدّاه أبو عمرو بالتضعيف ، وهم بالهمزة. وعن أبي عمرو أنه فرق بمعنى آخر فقال : خرّب بالتشديد هدم ، وأفسد وأخرب بالهمزة ترك الموضع خرابا وذهب عنه ، وهو قول الفرّاء. قال المبرد : ولا أعلم لهذا وجها ، وزعم سيبويه أنهما متعاقبان في بعض الكلام فيجري كل واحد مجرى الآخر ، نحو : فرحته وأفرحته.

وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص بيوتهم بضم الباء الموحدة ، والباقون بكسرها (بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) قال الزهري : وذلك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما صالحهم على أنّ لهم ما أقلت الأبل ، كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم فيهدمونها ، وينزعون ما استحسنوه منها فيحملونه على إبلهم ، ويخرّب المؤمنون باقيها. وقال قتادة والضحاك : كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا ، واليهود من داخل ليبنوا ما خرّب من حصنهم.

وقال مقاتل : إنّ المنافقين أرسلوا إليهم أن لا تخرجوا ودرّبوا عليهم الأزقة ، وكان المسلمون سائر الجوانب.

فإن قيل : ما معنى تخريبها لهم بأيدي المؤمنين؟ أجيب : بأنهم لما عرضوهم لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوهم إياه. وقال أبو عمرو بن العلاء : بأيديهم في تركهم لها ، وبأيدي المؤمنين في إجلائهم عنها

ولما كان في غاية الغرابة أن يعمل الإنسان في نفسه كما يفعل فيه عدوّه تسبب عن ذلك قوله (فَاعْتَبِرُوا) أي : احملوا أنفسكم بالإمعان في التأمّل في عظيم قدرة الله تعالى ، والاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء ، ولهذا سميت العبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخدّ. وسمي علم التعبير لأنّ صاحبه ينتقل من التخيل إلى المعقول ، وسميت الألفاظ عبارات ؛ لأنها تنقل

٢٥٤

المعاني عن لسان القائل إلى عقل المستمع ويقال : السعيد من اعتبر بغيره لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه ، ومن لم يعتبر بغيره اعتبر به غيره. ولهذا قال القشيري : الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالاتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها

ثم بين أنّ الاعتبار لا يحصل إلا للكمّل بقوله تعالى : (يا أُولِي الْأَبْصارِ) بالنظر بأبصارهم وبصائرهم في غريب هذا الصنع ، لتحققوا به ما وعدكم على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إظهار دينه وإعزاز نبيه ، ولا تعتمدوا على غير الله تعالى كما اعتمد هؤلاء على المنافقين ، فإنّ من اعتمد على مخلوق أسلمه ذلك إلى صغاره ومذلته.

(وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ) أي : فرض فرضا حتما الملك الذي له الأمر كله (عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) أي : الخروج من ديارهم والجولان في الأرض. فأمّا معظمهم فأجلاهم بختنصر من بلاد الشام إلى العراق ، وأمّا هؤلاء فحماهم الله تعالى بمهاجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك الجلاء ، وجعله على يده صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأجلاهم ، فذهب بعضهم إلى خيبر ، وبعضهم إلى الشام مرة بعد مرة

تنبيه : قال الماوردي : الجلاء أخص من الخروج ، لأنه لا يقال إلا للجماعة ، والإخراج يكون للجماعة والواحد. وقال غيره : الفرق بينهما أنّ الجلاء ما كان مع الأهل والولد ، بخلاف الإخراج فإنه لا يستلزم ذلك (لَعَذَّبَهُمْ) أي : بالقتل والسبي (فِي الدُّنْيا) كما فعل بقريظة من اليهود (وَلَهُمْ) أي : على كل حال أجلوا أو تركوا (فِي الْآخِرَةِ) التي هي دار البقاء (عَذابُ النَّارِ) وهو العذاب الأكبر.

(ذلِكَ) أي : الأمر العظيم الذي فعله بهم من الجلاء ومقدماته في الدنيا ، ويفعله بهم في الآخرة (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ) أي : الملك الأعلى الذي له الإحاطة التامّة فكانوا في شق غير شقه ، بأن صاروا في شق الأعداء المحاربين بعد ما كانوا الموادعين (وَ) شاقوا (رَسُولَهُ) أي : الذي إجلاله من إجلاله (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ) أي : يوقع في الباطن مشاقة الملك الأعلى الذي لا كفؤ له في الماضي والحال والاستقبال (فَإِنَّ اللهَ) أي : المحيط بجميع العظمة (شَدِيدُ الْعِقابِ) وذلك كما فعل بعد هذا حيث نقضوا عهدهم وأظهروا المشاقة في غزوة الأحزاب وكما فعل بأهل خيبر بأهل خيبر.

وقوله تعالى : (ما) شرطية في موضع نصب بقوله تعالى : (قَطَعْتُمْ) وقوله تعالى : (مِنْ لِينَةٍ) بيان له. واختلف في معنى قوله تعالى : (مِنْ لِينَةٍ) فأكثر المفسرين على أنها هي النخلة مطلقا ، كأنهم اشتقوها من اللين. قال ذو الرمة (١) : [من الطويل]

كان قتودي فوقها عش طائر

على لينة سوقاء تهفو جنوبها

وقال الزهري : هي النخلة ما لم تكن عجوة ولا برنية ، وقال جعفر بن محمد : هي العجوة خاصة ، وذكر أن العتيق والعجوة كانتا مع نوح عليه الصلاة والسلام في السفينة ، والعتيق : الفحل وكانت العجوة أصل الإناث كلها فلذلك شق على اليهود قطعها حكاه الماوردي. وقال سفيان : هي ضرب من النخل يقال لثمرها اللون ، وهو شديد الصفرة يرى نواه من خارجه ، ويغيب فيه الضرس ، النخلة منها أحب إليهم من وصيف.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان ذي الرمة ص ٧٠٢.

٢٥٥

وقيل : هي النخلة الكريمة ، أي : القريبة من الأرض. وقيل : هي الفسيلة ، أي : بالفاء وهي صغار النخل لأنها ألين من النخلة. وقيل : هي الأشجار كلها للينها بالحياة. وقال الأصمعي : هي الدقل. قال ابن العربي : والصحيح ما قاله الأزهري ومالك ، وجمع اللينة لين ؛ لأنه من باب اسم الجنس كتمرة وتمر ، وقد تكسر على ليان وهو شاذ لأن تكسير ما يفرق بتاء التأنيث شاذ كرطبة ورطب وأرطاب والضمير في قوله تعالى : (أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً) عائد على معنى ما.

ولما كان الترك يصدق ببقائها مغروسة أو مقطوعة قال تعالى : (عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ) أي : فقطعها بتمكين الملك الأعظم ، روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل ببني النضير وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها ، فجزع أعداء الله تعالى عند ذلك وقالوا : يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح ، أفمن الصلاح عقر الشجر وقطع النخل ، وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض ، فوجد المسلمون في أنفسهم من قولهم وخشوا أن يكون ذلك فسادا ، واختلفوا في ذلك فقال بعضهم : لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا ، وقال بعضهم : بل نغيظهم بقطعه فأنزل الله تعالى هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه ، وتحليل من قطعه من الأثم ، وإن ذلك كان بإذن الله وعن ابن عمر قال : «حرق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نخل بني النضير وقطع» (١) واللام في قوله تعالى : (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) متعلقة بمحذوف ، أي : وأذن في قطعها ليخزي اليهود في اعتراضهم بأن قطع الشجر المثمر فساد ، وليسر المؤمنين ويعزهم ، وليخزي الفاسقين.

فإن قيل : لم خصت اللينة بالقطع؟ أجيب : بأنه إن كانت من الألوان فليستبقوا لأنفسهم العجوة والبرنية ، وإن كانت من كرام النخل فليكون غيظ اليهود أشدّ.

واحتجوا بهذه الآية على أنّ حصون الكفرة وديارهم يجوز هدمها وتحريقها وتغريقها ، وأن ترمى بالمناجيق ، وكذا أشجارهم. وعن ابن مسعود : أنهم قطعوا منها ما كان موضعا للقتال ، وروي : أنّ رجلين كانا يقطعان أحدهما العجوة والآخر اللون فسألهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : هذا تركتها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : هذا قطعتها غيظا للكفار. وقد استدل به على جواز الاجتهاد ، وعلى جوازه بحضور النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهما بالاجتهاد فعلا ذلك ، واحتج به من يقول : كل مجتهد مصيب. وقال الكيا الطبري : وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرهم ، ولا شك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ذلك وسكت ، فتلقوا الحكم من تقريره فقط. قال ابن العربي : وهذا باطل لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان معهم ، ولا اجتهاد مع حضوره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما يدل على اجتهاد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما لم ينزل عليه أخذا بعموم الأدلة للكفار ودخولا للإذن في الكل بما يقضي عليهم بالبوار ، وذلك قوله تعالى : (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ.)

(وَما أَفاءَ اللهُ) أي : ردّ الملك الذي له الأمر كله ردّا سهلا بعد أن كان في غاية العسر والصعوبة (عَلى رَسُولِهِ) فصيره في يده بعد أن كان خروجه عنها بوضع أيدي الكفرة عليه ظلما وعدوانا ، كما دل عليه التعبير بالفيء الذي هو عود الظلّ إلى الناحية التي كان ابتدأ منها (مِنْهُمْ)

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجهاد حديث ٣٠٢١ ، ومسلم في الجهاد حديث ١٧٤٦ ، وأبو داود في الجهاد حديث ٢٦١٥ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٣٠٢ ، وابن ماجه في الجهاد حديث ٢٨٤٤ ، والدارمي في السير حديث ٢٤٦٠.

٢٥٦

أي : ردّا مبتدأ من الفاسقين فبين تعالى أن هذا فيء لا غنيمة ، ويدخل في الفيء أموال من مات منهم بلا وارث ، وكذا الفاضل عن وارث له غير حائز ، وكذا الجزية وعشر تجاراتهم وما جلوا أي : تفرقوا عنه ولو لغير خوف كضرّ أصابهم.

وأمّا الغنيمة فهي ما حصل لنا من الحربيين مما هو لهم بإيجاف حتى ما حصل بسرقة أو التقاط ، وكذا ما انهزموا عنه عند التقاء الصفين ولو قبل شهر السلاح ، أو أهداه الكافر لنا والحرب قائمة. ولم تحل الغنائم لأحد قبل الإسلام بل كانت الأنبياء إذا غنموا مالا جمعوه فتأتي نار من السماء فتأخذه ، ثم أحلت لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانت في صدر الإسلام له خاصة ، لأنه كالمقاتلين كلهم نصرة وشجاعة بل أعظم ، ثم نسخ ذلك واستقرّ الأمر على ما هو في سورة الأنفال في قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنفال : ٤١] الآية وأما الفيء فهو مذكور هنا بقوله تعالى : (فَما أَوْجَفْتُمْ) أي : أسرعتم يا مسلمين (عَلَيْهِ) ومن في قوله تعالى : (مِنْ خَيْلٍ) مزيدة ، أي : خيلا ، وأكد بإعادة النافي دفعا لظن من ظنّ أنه غنيمة لإحاطتهم به بقوله تعالى : (وَلا رِكابٍ) والركاب الإبل غلب ذلك عليها من بين المركوبات ، واحدها راكبة ولا واحد لها من لفظها.

وقال الرازي : العرب لا يطلقون لفظ الراكب إلا على راكب البعير ، ويسمون راكب الفرس فارسا ، والمعنى : لم تقطعوا إليها شقة ولا لقيتم بها حربا ولا مشقة ، فإنها كانت من المدينة على ميلين ، قاله الفرّاء فمشوا إليها مشيا ، ولم يركبوا إليها خيلا ولا إبلا إلا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركب جملا ، وقيل : حمارا مخطوما بليف فافتتحها صلحا.

قال الرازي : إنّ الصحابة طلبوا من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقسم الفيء بينهم كما قسم الغنيمة بينهم ، فذكر الله تعالى الفرق بين الأمرين ، وأنّ الغنيمة هي التي تعبتم أنفسكم في تحصيلها ، وأمّا الفيء فلم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكان الأمر مفوّضا فيه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يضعه حيث يشاء.

(وَلكِنَّ اللهَ) أي : الذي له العز كله فلا كفؤ له (يُسَلِّطُ رُسُلَهُ) أي : له هذه السنة في كل زمن (عَلى مَنْ يَشاءُ) يجعل ما آتاهم سبحانه من الهيبة رعبا في قلوب أعدائه (وَاللهُ) أي : الملك الذي له الكمال كله (عَلى كُلِّ شَيْءٍ) يصح أن تتعلق المشيئة به ، وهو كل ممكن من التسليط وغيره (قَدِيرٌ) أي : بالغ القدرة إلى أقصى الغايات فلا حق لكم فيه ، ويختص به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن ذكر معه في الآية الثانية من الأصناف الأربعة ، على ما كان عليه القسمة من أنّ لكل منهم خمس الخمس وله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الباقي يفعل فيه ما يشاء.

ثم بين تعالى مصرف الفيء بقوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ) أي : الذي اختص بالعزة والقدرة والحكمة (عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) أي : قرية بني النضير وغيرها من وادي القرى والصفراء وينبع ، وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عربية ، فيخمس ذلك خمسة أخماس وإن لم يكن في الآية تخميس ، فإنه مذكور في آية الغنيمة فحمل المطلق على المقيد ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم له أربعة أخماسه وخمس خمسة ، ولكل من الأربعة المذكورين معه خمس خمس وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وورش بين اللفظين ، والباقون بالفتح فقوله تعالى : (فَلِلَّهِ) أي : الملك الأعلى الذي كله بيده ذلك للتبرّك ، فإنّ كل أمر لا يبدأ فيه به فهو أجذم (وَلِلرَّسُولِ) أي : الذي عظمته من عظمته تعالى ، وقد تقدم ما كان له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمّا بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيصرف ما كان له من خمس الخمس لمصالح المسلمين ، وسد ثغور ، وقضاة ، وعلماء بعلوم تتعلق بمصالح المسلمين كتفسير

٢٥٧

وقراءة ، والمراد بالقضاة غير قضاة العسكر أمّا قضاته وهم الذين يحكمون لأهل الفيء في مغزاهم فيرزقون من الأخماس الأربعة لا من خمس الخمس ، يقدّم وجوبا الأهمّ فالأهمّ. وأمّا الأربعة المذكورة معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأولها المذكور في قوله تعالى : (وَلِذِي الْقُرْبى) أي : منه ، وهم مؤمنو بني هاشم وبني المطلب لاقتصاره صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القسم عليهم مع سؤال غيرهم من بني عميهم نوفل وعبد شمس له ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أما بنو هاشم وبنو المطلب فشيء واحد ، وشبك بين أصابعه» (١) فيعطون ولو أغنياء لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطى العباس وكان غنيا ، ويفضل الذكر على الأنثى كالإرث فله سهمان ولها سهم ، لأنه عطية من الله تعالى يستحق بقرابة الأب كالإرث سواء الكبير والصغير ، والعبرة بالانتساب إلى الآباء فلا يعطى أولاد البنات من بني هاشم والمطلب شيئا لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعط الزبير وعثمان مع أن أم كل منهما كانت هاشمية.

وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وورش بالفتح وبين اللفظين ، وأبو عمرو بين بين ، والباقون بالفتح ، وخالفهم أبو عمرو في واليتامى. ثانيها : المذكور في قوله تعالى : (وَالْيَتامى) أي : الفقراء منا لأن لفظ اليتيم يشعر بالحاجة لأنه مال أو نحوه أخذ من الكفار فاختص كسهم المصالح ، واليتيم صغير ولو أنثى لخبر «لا يتم بعد احتلام» (٢) رواه أبو داود وحسنه النووي وإن ضعفه غيره لا أب له ، وإن كان له أمّ. وحد اليتيم في البهائم من فقد أمّه ، وفي الطير من فقد أباه وأمّه ، ومن فقد أمّه فقط من الآدميين يقال له : منقطع. ثالثها : المذكور في قوله تعالى : (وَالْمَساكِينِ) الصادقين بالفقراء ، وهم أهل الحاجة منا وتقدّم تعريفهما في سورة الأنفال ، وكذا تعريف الرابع المذكور في قوله تعالى : (وَابْنِ السَّبِيلِ) أي : الطريق الفقير منا ذكورا كانوا أو إناثا ، ولو اجتمع في واحد من هذه الأصناف يتم ومسكنة أعطي باليتم فقط ، لأنه وصف لازم والمسكنة زائلة ، وللإمام التسوية والتفضيل بحسب الحاجة ويعم الإمام ولو بنائبه الأصناف الأربعة الأخيرة بالإعطاء وجوبا لعموم الآية فلا يخص الحاضر بموضع حصول الفيء ، ولا من في كل ناحية منهم بالحاصل فيها نعم لو كان الحاصل لا يسد مسدّا بالتعميم قدم الأحوج فالأحوج ، ولا يعمّ للضرورة.

ومن فقد من الأربعة صرف نصيبه للباقين منهم ، وأمّا الأخماس الأربعة فهي للمرتزقة ، وهم المرصدون للجهاد بتعيين الإمام لهم بعمل الأولين به بخلاف المتطوّعة فلا يعطون من الفيء بل من الزكاة عكس المرتزقة ، ويشرك المرتزقة قضاتهم كما مرّ وأئمتهم ومؤذنوهم وعمالهم ، ويجب على الإمام أن يعطي كل من المرتزقة بقدر حاجة ممونه من نفسه ، وغيرها كزوجاته ليتفرّغ للجهاد ويراعي في الحاجة الزمان والمكان والرخص والغلاء ، وعادة الشخص مروأة وضدّها ويزادان زادت حاجته بزيادة ولد ، أو حدوث زوجة فأكثر ومن لا عبد له يعطى من العبيد ما يحتاجه للقتال معه ، أو لخدمته إن كان ممن يخدم ، ويعطى مؤنته.

ومن يقاتل فارسا ولا فرس له يعطى من الخيل ما يحتاجه للقتال ، ويعطى مؤنته بخلاف

__________________

(١) أخرجه النسائي في قسم الفيء حديث ٤١٣٧.

(٢) أخرجه أبو داود في الوصايا حديث ٢٨٧٣ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٧ / ٥٧ ، ٣٢٠ ، والسيوطي في الدر المنثور ١ / ٢٨٨ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٥٠٥٤.

٢٥٨

الزوجات يعطى لهنّ مطلقا لانحصارهن في أربع ، ثم ما يدفعه إليه لزوجته وولده الملك فيه لهما حاصل من الفيء.

وقيل : يملكه هو ويصير إليهما من جهته ، فإن مات أعطى الإمام أصوله وزوجاته وبناته إلى أن يستغنوا ، ويسنّ أن يضع الإمام ديوانا وهو الدفتر الذي يثبت فيه أسماء المرتزقة وأوّل من وضعه عمر رضي الله عنه وأن ينصب لكل جمع عريفا ، وأن يقدم في اسم وإعطاء قريشا لشرفهم بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولخبر «قدّموا قريشا» (١) ، وأن يقدم منهم بني هاشم وبني المطلب فبني عبد شمس فبني عبد العزى فسائر بطون العرب الأقرب فالأقرب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسائر العرب فالعجم ، ولا يثبت في الديوان من لا يصلح ، ومن مرض فكصحيح وإن لم يرج برؤه ، ويمحى اسم كل من لم يرج ، وما فضل عنهم وزع عليهم بقدر مؤنتهم وللإمام صرف بعضه في ثغور وسلاح وخيل ونحوها ، وله وقف عقار فيء أو بيعه وقسم غلته أو ثمنه كقسم المنقول أربعة أخماسه للمرتزقة وخمسة للمصالح ، وله أيضا : قسمه كالمنقول لكن خمس الخمس الذي للمصالح لا سبيل إلى قسمته.

ولما حكم سبحانه هذا الحكم في الفيء المخالف لما كانوا عليه في الجاهلية من اختصاص الأغنياء به بين علته المظهرة لعظمته بقوله تعالى : (كَيْ لا يَكُونَ) أي : الفيء الذي يسره الله تعالى بقوّته من قذف الرعب في قلوب أعدائه ، ومن حقه أن يعطاه الفقراء (دُولَةً) أي : متداولا (بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) أي : يتداوله الأغنياء ويدور بينهم كما كان في الجاهلية ، فإنهم كانوا يقولون : من عزّ بزّ ، ومنه قول الحسن : اتخذوا عباد الله خولا ، ومال الله دولا ، يريد : من غلب منهم أخذه واستأثر به. وقرأ هشام بخلاف عنه تكون بالتأنيث دولة بالرفع ، والباقون بالتذكير والنصب ، فأمّا الرفع فعلى أن كان تامّة ، وأمّا التأنيث والتذكير فواضحان ؛ لأنه تأنيث مجازي ، وأما النصب فعلى إنها الناقصة واسمها ضمير عائد على الفيء. والتذكير واجب لتذكير المرفوع ، ودولة خبرها ، وقيل : دولة عائد على ما اعتبارا بلفظها ، وكي لا هنا مقطوعة في الرسم

(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ) أي : وكل شيء أحضره لكم الكامل في الرسالة من الغنيمة ، أو مال الفيء أو غيره (فَخُذُوهُ) أي : فاقبلوه لأنه حلال لكم ، وتمسكوا به فإنه واجب الطاعة (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ) أي : من جميع الأشياء (فَانْتَهُوا) لأنه لا ينطق عن الهوى ، ولا يقول ولا يفعل إلا ما أمر ربه عزوجل.

تنبيه : هذه الآية تدل على أنّ كل ما أمر به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر من الله تعالى لأنّ الآية ، وإن كانت في الغنائم فجميع أوامره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونواهيه داخل فيها. قال عبد الرحمن بن زيد : لقي ابن مسعود رجلا محرما وعليه ثيابه ، فقال : انزع عنك هذا ، فقال الرجل : تقرأ عليّ بهذا آية من كتاب الله تعالى ، قال : نعم (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وقال عبد الله بن محمد بن هارون الفريابي : سمعت الشافعي رضى الله عنه يقول : سلوني عما شئتم أخبركم من كتاب الله تعالى ، وسنة نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فقلت له : أصلحك الله ما تقول في المحرم يقتل الزنبور ، قال : فقال : بسم

__________________

(١) لفظ الحديث بتمامه : «قدّموا قريشا ولا تقدموها». أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٢ / ٢٣١ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ٢٥ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٣٧٩١ ، ٣٣٧٨٩ ، ٣٣٧٩٠ ، وابن حجر في فتح الباري ١٣ / ١١٨.

٢٥٩

الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر» (١) حدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن قيس بن أسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب : أنه أمر بقتل الزنبور. وهذا الجواب في غاية الحسن أفتى بقتل الزنبور في الإحرام ، وبين أنه يقتدى فيه بعمر ، وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بالاقتداء به ، وأنّ الله تعالى أمر بقبول ما يقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجواز قتله من الكتاب والسنة.

وسئل عكرمة عن أمّهات الأولاد هل هنّ أحرار؟ فقال : في سورة النساء في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء : ٥٩] وفي صحيح مسلم وغيره عن علقمة عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لعن الله الواشمات والمستوشمات ، والمتنمصات ، والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله تعالى» (٢) فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب فجاءت فقالت : بلغني أنك لعنت كيت وكيت ، فقال وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو في كتاب الله تعالى فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول فقال : لئن كنت قرأتيه فقد وجدتيه أما قرأت (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) قالت : بلى ، قال : فإنه قد نهى عنه الحديث.

فائدة : الوشم : هو غرز العضو من الإنسان بالإبرة ، ثم يحشى بالكحل. والمستوشمة ، هي التي تطلب أن يفعل بها ذلك ، والنامصة : هي التي تنتف الشعر من الوجه ، والمتفلجة : هي التي تتكلف تفريج ما بين ثناياها بصناعة ، وقيل : تتفلج في مشيها في كل شيء منهي عنه. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وورش بالفتح وبين اللفظين ، والباقون بالفتح والهمزة ممدودة بلا خلاف لأنها بمعنى الإعطاء (وَاتَّقُوا اللهَ) أي : واجعلوا لكم بطاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقاية من عذاب الملك الأعظم المحيط علما وقدرة ، وعلل ذلك بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ) أي : الذي له الجلال والإكرام على الإطلاق (شَدِيدُ الْعِقابِ) أي : العذاب الواقع بعد الذنب. قال البقاعي ومن زعم أن شيئا مما في هذه السورة نسخ بشيء مما في سورة الأنفال فقد أخطأ ، لأنّ الأنفال نزلت في بدر ، وهي قبل هذه بمدّة.

وقوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ) أي : الذين كان الإنسان منهم يعصب الحجر على بطنه من الجوع ويتخذ الحفرة في الشتاء لتقيه البرد وما له دثار غيرها بدل من لذي القربى ، وما عطف عليه قاله الزمخشري. والذي منع الإبدال من لله وللرّسول والمعطوف عليهما وإن كان المعنى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنّ الله تعالى أخرج رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الفقراء في قوله تعالى : (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ولأنه

__________________

(١) أخرجه الترمذي حديث ٣٦٦٢ ، ٣٨٠٥ ، وابن ماجه حديث ٩٧ ، وأحمد في المسند ٥ / ٣٨٢ ، ٣٨٥ ، ٣٩٩ ، ٤٠١ ، ٤٠٢ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٥ / ١٢ ، ٨ / ١٥٣.

(٢) أخرجه البخاري في اللباس حديث ٥٩٣١ ، ومسلم في اللباس حديث ٢١٢٥ ، والترمذي في اللباس حديث ١٧٥٩.

٢٦٠